نافذ في الإسقاط

بقلم: الأسير ابن النويدرات
ثلاثة عشر عاماً مضت، وما زالت جذور الثورة المباركة متوقدة في نفس مفجرها وقائدها أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين (روحي فداه)، توقد لم يخفت وهجه للحظة، وكأن السنين لم تتعاقب والظروف لم تتغير.
لنعد بالزمن إلى النقطة التي سبقت انتشار دعوات التظاهر في يوم الغضب، لنستذكر معاً تلك الأيام الإلهية ونقف على مواقف أستاذ السياسة والكياسة في تلك المرحلة المفصلية في تاريخ البحرين الحديث، ونتعرف على جزء يسير من دوره في تفجير الثورة التي ما زالت قائمة حتى اليوم.
• تعبئة البصير:
اشتدت قبضة النظام الأمنية في العام 2010م، واعتقلت المجموعات الشبابية من مختلف القرى والمناطق، حتى ظن الصديق قبل العدو أن النظام وجه ضرب قاصمة للحراك ووأد أي بوادر لتحرك شعبي في مهده، وسط تلك الأجواء المشحونة بالخوف والقلق على مستقبل البلاد توجهت مجموعة من الشباب المرابط لفضيلة الأستاذ عبدالوهاب حسين لتخبره بما ترتكبه أجهزة النظام من اعتقالات واسعة في صفوفهم، وبين كلمات الشجن رسم الأستاذ ابتسامة الوطن لتتسرب السكينة والطمأنينة إلى نفوس الشباب ويقول بعدها: “إنه خير”.
ومنها أخذ الصراع بين تيار الممانعة والحكومة الفاسدة يأخذ منحى تصاعدياً رغم بطش السلطة وتعسفها، ففي جلسة ليلة الثلاثاء الأسبوعية (31 مايو 2010 م) بمنزل أستاذ البصيرة صرح الأستاذ قائلاً: “النظام في البحرين ليس قدراً مفروضاً على الشعب البحريني في جميع الأحوال فكرامة الإنسان تفرض أن يختار الشعب حكومته بنفسه”.
خطابات أستاذ البصيرة ومن معه في تيار الممانعة أخذت مفعول التعبئة والتحشيد لاستمرار الحراك المطلبي في الشارع، ودفعت الشعب شيئاً فشيئاً لنزع رداء الرهبة عنه، لتبلغ تلك الحالة أوجها عندما نهض الشعب التونسي ضد نظام بن علي وثار المصريون على نظام مبارك، هنا بدأت دعوات التظاهر تغزو المواقع الالكترونية وألسنة الشعب واختاروا يوم (14 فبراير) يوماً للغضب وهو اليوم الذي يحتفل به نظام المكر بالميثاق الذي انقلب عليه.
• توجيهات البصير:
في ذلك الوقت الذي لم تلقَ فيه دعوات التظاهر استفسار الكثيرين، شحذ أستاذ البصيرة سيف التأييد وتبنى تلك الدعوات كأول رمز سياسي يعلن وقوفه مع الحراك ويعطيه المشروعية السياسية والحقوقية، وليبدأ التنظير ليوم الغضب ويبث آرائه وتوصياته، كما خصص جلسة ليله الثلاثاء بتاريخ (8 فبراير 2011م) -أي قبل يوم الغضب بأسبوع- إلى مناقشة الرؤى، وفي تلك الجلسة أوضح الأستاذ مطالب التحرك الإجمالية ودعا الجميع للتظاهر والمشاركة، وطلب من الحضور التحشيد للمشاركة في اللقاء المفتوح في جزيره سترة بعد يومين.
في 10 فبراير 2011م أقيم اللقاء المفتوح الذي أداره الشهيد المهندس علي المؤمن (رض) وحضره جمع غفير من الشباب الميداني في القرى، وفيه تحدث الأستاذ عن المرحله القادمة وطرح لأول مرة مفهوم (اللامركزية) الذي يدعو لعدم اتكال الجماهير على الأحزاب والتيارات السياسية الرسمية والتقليدية وتقريرها للفعاليات الميدانية، وبالتوازي دعا الأستاذ الشباب الحركي لتنظيم أنفسهم كفرق ميدانية للتأقلم مع الظروف المستجدة التي سيفرزها يوم الغضب.
لم يقف الأستاذ عند ذلك الحد، ففي يوم الأحد 13 فبراير، استدعى فضيلته الهيئة السياسية لتيار الوفاء الإسلامي ووجههم للنزول إلى الشارع في يوم الغضب، ومما قاله لهم: “البحرين بعد 14 فبراير لن تكون كما قبلها”.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن تيار الوفاء الإسلامي أصدر بياناً قبل يوم الغضب رسم فيه الخطوط العامة للحراك، وقال بصريح العبارة: “إن سفك الدم الحرام سيقابل بالمطالبة بإسقاط النظام”.
• ثورة البصير:
بزغ فجر يوم الغضب (14 فبراير)، وصلى أستاذ البصيرة صلاة الفجر بشباب امتلئت قلوبهم بالثورة، وانطلقوا إلى الشارع العام لقرية النويدرات -رغم أن جدولة التظاهرات في بقية القرى ستكون عصراً- وهناك اعتصموا وأبوا التراجع رغم كثافة التواجد الأمني والقمع الوحشي.
في تلك اللحظة انتشرت صور المسيرة التي يتقدمها الأستاذ في كل المواقع والمنتديات، ورآها الشعب الذي اشتعل بالحماسة والعنفوان وخرج بالآلاف في تظاهرات الغضب على مدار اليوم.
لقد أدرك الأستاذ بفطنته تأثير تواجده وتقدمه الركب في المسيرة الأولى للثورة، ومدى الفارق الذي سينجزه حضوره في الميدان.
انفجرت الثورة، وتسارعت الأحداث، استشهد مشيمع ولحقه المتروك، ثم بلغ الشعب دوار اللؤلؤة واعتصم هناك، لتحل بعدها مجزرة الخميس الدامي وفرض النظام الحصار على الدوار الذي تحول لميدان الشهداء، وهنا هبت الجماهير لفك الحصار فسقط بو حميد شهيداً برصاص الجيش، وفتح الميدان ببركة الدماء الزاكية.
مجدداً، تجمع الشعب في ميدان الشهداء بالآلاف، وبدأت أعداد المتظاهرين تزداد شيئاً فشيئاً، وبدأ الأستاذ يلقي خطابات الوعي في كل مكان، فقد تحدث مره أخرى عن نظرية (اللامركزية) في مستشفى السلمانية الطبي بعد شهادة بوحميد، وأكد على إن (اللامركزية) هي السبب في إعادة فتح الميدان -وللعلم، فإن اللامركزية اعطت لاحقاً مساحة واسعة للتفكير والإبداع وتحمل المسؤولية-، فيما ألقى خطاب الوصية الأساس من على منصة ميدان الشهداء وأكد فيه على ضرورة التمسك بخيار إسقاط النظام وبيَن العديد من الأحداث التي اصابت الثورة فيما بعد.
وكانت للأستاذ خلال أيام الدوار بصمة في العديد من المواقف والأعمال، نذكر بعضها على شكل نقاط حتى لا يطول بنا المقام:
- المشاركة في تشييعات الشهداء والتأكيد على ضرورة السير على نهجهم ودربهم حتى تحقيق المطالب.
- إجراء العديد من اللقاءات الصحفية والتلفزيونية مع الإعلام الأجنبي لتبيين مفاهيم الثورة وتفنيد أكاذيب السلطة وفضح جرائمهم كجريمة دخول قوات درع الجزيرة.
- دعم تحركات وقرارات مختلف الفئات كقرار شباب الثورة بالامتناع عن الذهاب للمدارس، وخيار الإضراب من بعض القطاعات المهنية.
- تأييده ومشاركته في مسيرة الصافرية باعتبارها كسراً للخطوط الحمراء بالمشاركه وتوجيه النصح للمسيرة.
- دفاعه عن المجموعات الشبابية التي أغلقت المرفأ المالي في وجه من اعتبر العمل استفزازاً للنظام، حتى أن الأستاذ قال للشباب: “لا ينبغي أن يتدخل أحد حول خطواتكم هذه وسوف أتواصل مع هذه الأطراف لثنيها عن ضغوطها عليكم”.
- توجيه النصائح للجهات الإعلامية التي كانت نواة (المركز الإعلامي للثورة في البحرين) وإرشادها لتغطية كافه الفعاليات وعدم التحزب الأعمى.
- بث رسائل التطمين لأهل السنهة بأن حقوقهم محفوظة وأن الرموز والقيادات هم الضمانة لعدم سلب حقوقهم.
- تشكيل التحالف من أجل الجمهورية واعتباره غطاءً سياسياً لخيار إسقاط النظام، وقد حمى التحالف الجماهير المطالبة بالاسقاط من مصادرة رأيها، وقدم بديلاً نظرياً وعملياً لنظام الحكم.
- رفض لقاء المبعوث الأمريكي للمنطقة (جيفري فيلتمان).
• اعتقال البصير:
في 17 مارس 2011 م أعتقل مفجر الثورة من منزله واقتيد إلى غرف التعذيب المظلمة ليلاقي شتى صنوف التنكيل، وهناك حضر مسؤول خليفي له محاولاً ثنيه عن خيار الإسقاط فقال له أستاذ البصيرة: “بخصوص مطلب الجمهورية فهو خيار مبني على رؤية سياسية نتبناها، وهو ما زال مطلبنا لأننا نرى أن جميع الخيارات قد استنفذت مع السلطة الحالية من أجل إصلاحها”.
اعتقال الأستاذ وإيداعه السجن لم يمنعه من مواصلة دوره الإرشادي للجماهير، بل إن بصماته التوجيهية كانت نبراساً للشعب وخير دليل على ذلك عبارته الشهيرة: “إما العدل في الدولة أو المقاومة المشروعة” التي أرست دعائم المقاومة البحرانية.
واستمر هذا الدور طيلة أعوام الثورة، ففي (أكتوبر 2011م) أصدر الأستاذ من سجنه بياناً جاء فيه: “ويفتحوا الطريق للإصلاحات الجوهرية التي ترضي الشعب”، وهنا سئل من قبل قيادة التيار عن ما إذا قد تخلى عن مطلب إسقاط النظام، فقال الأستاذ بضرس قاطع: “لم تتغير قناعاتي، وما زلت مصراً على مطلب إسقاط النظام”، وعقب الأستاذ بتوجيه لقيادة تيار الوفاء الإسلامي: “وعليكم أن تعملوا وفق استراتيجية لتحقيق مطلب إسقاط النظام”.
كلام فضيلة الأستاذ يكشف عن مدى رسوخه وعزيمته وصلابته لإنفاذ المطلب الذي ما زال مقتنعاً بأنه القرار الصائب وأن مقتضياته لا تزال باقية.
حفظ الله أستاذ البصيرة وأطال في عمره، وألهمه الثبات في إنفاذ أمر إسقاط النظام.
20 يونيو/حزيران 2024




