اليوم التالي للحرب.. غزة تبتلع محمود عباس مجدداً
بقلم: الأسير أبو طه
بإزاء طوفان الأقصى فوهة بركان جديدة تشتعل داخل فلسطين، وهذه المرة بدأ الرئيس الفلسطيني محمود عباس بإشعال كرة النار وإلقائها في ملعب الفصائل الأخرى وذلك عبر تعنته وإصراره على الاستفراد بالقرار الفلسطيني الرسمي، فقد لجأ في 14 مارس الجاري إلى تعيين محمد مصطفى رئيساً جديداً لوزراء سلطته في خطوة عدها مراقبون هروباً مفضوحاً إلى الأمام ومساندة لجهود المحور الأمريكي الرامية إلى إنهاء حكم حماس لقطاع غزة فيما بات يعرف بـ “سيناريو اليوم التالي للحرب”.
إن هذا الاستفراد وإن لم يكن وليد اليوم بل هو وليد دكتاتورية ناشئة منذ نحو 40 عاماً، إلا أنه يأتي في وقت حساس للغاية وينبئ بنتائج خطيرة، أبرزها: إنهاء كل آمال التئام الصف الفلسطيني والخلاص من حالة الانقسام.
وبعكس عجلة طوفان الأقصى يحاول محمود عباس السير منفرداً، فقد كان مؤملاً أن تُقنع عملية طوفان الأقصى الفصائل الفلسطينية وفي مقدمتها منظمة التحرير بالقدرة على دحر الكيان الصهيوني المحتل واسترجاع كل شبر من الأراضي الفلسطينية إذا ما تم النظر إلى الطوفان والهلع الذي أصاب قلب العالم المستكبر كبروڤا مصغرة يمكن أن تتكرر في كل أنحاء فلسطين.
والواقع أن عباس وجوقته الذين كانوا مأخوذين بالعملية اضطروا لأن يتناغموا معها أمام الرأي العام، لأنها لم تصدم الإسرائيليين فحسب بل صدمت أكثر السلطة الفلسطينية التي كانت تعتقد أن حدوث شيء من هذا القبيل هو أقرب إلى الخيال.
ولذلك نلاحظ اختلافاً واضحاً في خطاب السلطة في المراحل الأولى من عملية طوفان الأقصى وخطابها الآن، ففي البداية امتنعت السلطة الفلسطينية عن إدانة عملية السابع من أكتوبر رغم الضغوط الدولية المتزايدة بينما نجدها اليوم تهاجم قيادة حماس وتعتبرها هي التي جرت الفلسطينيين إلى المذبح الإسرائيلي بسبب هذا التهور، وقد يسأل البعض عن السبب وراء هذا التغير السريع في المواقف، باعتقادي أن خطاب منظمة التحرير الحالي هو خطابها الأصلي وإن كان بجرعة متطرفة أكثر، في حين لجأت قيادة المنظمة إلى الخطاب الأول مضطرة لأنها لم تكن قادرة على الوقوف في وجه الطوفان ومفاعيله السياسية والميدانية والشعبية لا على مستوى فلسطين فحسب بل على مستوى العالم.
لقد كان واضحاً أمام أعين منظمة التحرير أن أي إدانة للعملية في بداياتها يعني شيئاً واحداً: الانتحار إلى الأبد، لذلك فإنها فضلت التريث حتى تظهر الأعراض الجانبية للعملية: (القصف العشوائي، الاجتياح البري، المجاعة، وغيرها) حتى تعود إلى منصتها الأولى وتبدأ بتفجير حقل الألغام تحت أرجل قادة حماس.
فبدلاً من أن يرفع عباس أقصى درجات التضامن مع حركة حماس في ظل الظرف العصيب ويتجه إلى الحوار وإلى المصافحة الداخلية لتعزيز القوة في مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية، فإنه على عكس ذلك وجد بخساسة نفس أن الفرصة مؤاتية لتصفية حركة حماس وإعادة القبض على تلابيب الحكم العسكري في غزة بعد أن طرد منها ذليلاً قبل 12 عاماً مستغلاً الضغط العسكري الصهيوني وآثاره الصعبة والقرار الأمريكي بتصفية المقاومة في القطاع أو لا أقل من إنهاء حكم حماس.
في هذا السياق بالضبط يأتي تعيين محمد مصطفى ليعيد حلم السيطرة على غزة إلى حقيبة السلطة الفلسطينية، وهذا ما كانت متيقظة له حماس والفصائل الفلسطينية المقاومة التي بادرت بإعلانها عن تشكيل حكومة تضم مختلف الفصائل في قطاع غزة هي التي تدير قرارها وشؤونها -كما جاء على لسان أسامة حمدان رئيس مكتب الحركة في لبنان- في خطوة ذكية لإفشال مخطط عباس الخائن وقطع الطريق عليه.
إن التواطئ مع العدو والارتزاق على معاناة الفلسطينيين ليس جديداً على منظمة التحرير، فهي مستعدة للتضحية بالشعب الفلسطيني وقضيته من أجل السيطرة والنفوذ، فإذا رجعنا بالذاكرة إلى نحو 30 عاماً نجد أن خشية منظمة التحرير من اتساع جماهيرية حركة الحماس والجهاد لأنها تتخذ خيار المقاومة سبيلاً إلى تحرير فلسطين دفعها إلى تحويل المشهد من المقاومة إلى التطبيع لقطع الطريق أمام الحركتين الفتيتين وإلزامهما بمقتضيات الأمر الواقع الذي كانت ترجوه من اتفاق أوسلو، وهذا ما أشار إليه الأستاذ عبدالوهاب حسين قبل 20عاماً: “تربع منظمة التحرير على كرسي القيادة للشعب الفلسطيني ولّد لديها شعوراً بأنها صاحبة الاستحقاق الأول والأولى بالقيادة للشعب الفلسطيني، ويكون دخولها في مشروع التسوية بمثابة قطع الطريق على منافسيها الذين يتطلعون لقيادة الشعب الفلسطيني”.
وفي الحقيقة بأن الرجل الذي كان عرّاباً لأكبر سقطة في التاريخ الفلسطيني المعاصر ليس بغريب عليه أن يكون فاجراً في الخصومة السياسية، ففي إحدى ليالي ثلاثاء البصيرة حدد الأستاذ نوعين من الخصوم: “خصم يتعامل بمنطق وينظر إلى حقيقة الخطاب والموقف، وخصم همه تعقيد الوضع وقلب الطاولة عليك”، إن المنطق مع الخصم الثاني هو اللا منطق في حد ذاته “فهل ينفع المنطق مع خصم مثل قوم صالح الذين طلبوا الناقة ليؤمنوا ثم عقروها بعد ذلك ؟!” يتساءل الاستاذ، فعباس الذي يعتبر نفسه متحدثاً حصرياً عن الشعب وأميناً أوحداً على مصيره ومستقبله هو الذي يسعى لتصفية أبناء شعبه وتعبيد الطريق لمخطط احتلال جديد.
لا شك أن الاسلوب الأمثل للتعامل مع خصوم من هذا النوع هو “التعامل بواقعية عملية بما يلزمه حده ويكفي الناس شره”، وهو بالفعل ما فعلته حماس ومن خلفها محور المقاومة أجمع، حيث أعلن أن سقوط حماس خط أحمر لن يكون أبداً شاء من شاء وأبى من أبى وزايد من زايد، فعباس الذي يسير في الفلك الأمريكي هو في الواقع يصطدم في صخرة صماء اسمها محور المقاومة، وإذا أصر على حماقته فسيجد أضلاع منظمته المهترئة تتكسر على هذه الصخرة، فعليه أن يراجع حساباته جيداً وأن يخرج من الكهف الذي تقبع فيه منظمته وإلا قد يجد نفسه غارقاً في رمال غزة الملتهبة، ولات حين مناص.